في زمن ليس ببعيد لم يكن التليفزيون المصري يجود علينا إلا بقناتين محليتين فقط: الأولى والثانية. وكطفل نشأ في إحدى القرى النائية كانت بالتبعية مصادر الرفاهية محدودة للغاية. لم يكن لدينا سوى خيالنا الشخصي في ابتكار الألعاب. الخيال النابع من مشاهدة الأفلام والمسلسلات التي يعرضها التليفزيون المصري، وساعة تبث أسبوعياً من قناة سبيستون.
يجري الكابتن ماجد طيلة الحلقة التي تنتهي دون معرفة هل ستسكن كرته الشبكة أم لا. حسناً سينتظر الجميع الحلقة القادمة على أحر من الجمر، الجميع سواي؛ لأنني دون قصد وقعت أسيراً لحب بسام، وهو أول ما جال في خاطري أثناء كتابة هذه الفقرة. غريب لماذا دون الجميع اخترت أنا بسام؟ ولماذا رغم مرور الأيام واختلاف التجارب لا يزال اختياري هو بسام؟
تخبرني أمي أنني اعتدت اختيار المخالف حتى أحقق تميزاً وسط البقية. خالف تُعرف، دائماً ما قالت لي ذلك، حسناً، كل ما تقوله لي محبب ومقرب، لكني هنا اليوم بعد ساعات من اعتزال رافاييل نادال بعمر الـ 38، لأجيبها أنني أخيراً وجدت الإجابة، وأنه للرواية سردية أخرى، والعهدة على رواية نادال.
تغريدة لنجم كرة القدم البرتغالي كريستيانو رونالدو، عن نجم كرة التنس المعتزل حديثاً الإسباني رافاييل نادال
يقول الباحثون إن فلسفة الاختيار قائمة بين مادية الإنسان من ناحية، وجوده وحركته في الواقع اليومي، وأخرى تتركز في عالمه المثالي الخاص به. يحاول كل منا في الحياة جاهداً توفيق اختياراته لتلائم تطلعاته الدفينة، ومنظوره للأشياء وللحياة كلها، هكذا وجدت بسام ومن بعده نادال ورونالدو.
يشترك بسام ورونالدو في النشأة الصعبة التي كونت شخصياتهما، الموهبة موجودة بنسب متفاوتة فيهما كليهما، وكلاهما عانى من ظروف الحياة القاسية في الصغر، لذا كان قرارهما أن يأكلا الأخضر واليابس حتى يصيرا الأفضل، سيعاني الاثنان من اتهام بالغرور - الموجود بالفعل ضمن تكوينهما - لكنه في الوقت نفسه سيكون السلعة التي يسوِّقان بها قصتهما أمام الجميع. ثقة لا متناهية كانت السبب في وقوفهما رأساً برأس أمام الآخر، الآخر الذي سيوصف دائماً بأنه الأكثر موهبة، والأقل تكلُّفاً، ماجد وميسي.
شخصية بسام الكرتونية في كابتن ماجد، وكريستيانو رونالدو
لكن في قصة رونالدو وبسام، رغم كل تلك الخطوط الحمراء، ما هو جذاب لي ولمعظم من أتى من النشأة نفسها، لم أكن ولن أكون الأكثر موهبة في اتجاه ما، لكن سردية السعي لإثبات شيء ما للجميع تحت شعار ماذا عني لمَ لا أفعلها مثل بسام ورونالدو ونادال؟
لحظة ما دخل نادال بالقصة؟
هكذا وبدون مقدمات، كان أول ما جذب انتباهي لنادال هي تشميرة ذراعه التي تشبه تشميرة ذراع بسام. القوة التي يركل بها الكرة في لعبة لا أعرف قواعدها، لكني أحبها كما يحبها خالي، لكن نادال لم يعِش تلك المعاناة التي عاشها رونالدو وبسام.
ولد رافاييل نادال يوم 3 يونيو 1986 بمدينة ماناكور في إسبانيا، وكان والده سيباستيان نادال رجل أعمال يملك شركة للزجاج، بينما كانت والدته آنا ماريا بربارا تدير مطعماً خاصاً.
نشأ رافا في عائلة ذات عقلية رياضية، حيث كان عمه ميغيل أنخيل نادال لاعب كرة قدم محترفاً شارك في مونديال 2002. وبدأ لعب التنس في سن الرابعة، بتوجيه من عم آخر، وهو توني نادال، الذي سيظل مدربه معظم مسيرته.
فاز ببطولة إقليمية للتنس للأطفال دون 12 سنة، وكان عمره ثماني سنوات، مما جعل عمه يكثف تدريبه، وقد دربه على استخدام يده اليسرى مع أنه كان يستخدم اليمنى للأنشطة الأخرى كالأكل والكتابة، لكنه شجعه على اللعب باليد اليسرى حتى تكون له ميزة خاصة.
وفي سن الـ 12 حاز اللقب الإسباني والأوروبي في كرة المضرب لمجموعة جيله، وبدأ مجموعة من الانتصارات المتتالية في معظم السنوات التالية واستطاع الفوز بـ 14 بطولة جراند سلام لفردي الرجال.
إنجاز تلو الآخر، لكن البداية الحقيقية كانت في سن السادسة عشرة، حين تأهل نادال إلى الدور نصف النهائي من بطولة ويمبلدون لفردي الناشئين. ليصبح أصغر لاعب يصل إلى الدور الثالث من بطولة ويمبلدون بعد اللاعب بوريس بيكر.
هنا بالتحديد بدأ صراعه مع اللاعب الذي يعتبره البعض الأعظم في تاريخ اللعبة، روجر فيدرر، وهنا أيضاً التقينا معاً.
لا أدعي معرفتي بالسينما، لكنني ذات مساء وقعت للأبد في عشق فيلم «أماديوس» المأخوذ عن نص لعملاق المسرح البريطاني السير بيتر شافير، وإخراج ميلوش فورمان.
وكأنها أسطورة تُقص عن الطموح والهوس والغيرة الشديدة، كل ذلك تجلى في تجسيد ف. موراي أبراهام لشخصية أنطونيو سالييري.
سالييري هو موسيقار البلاط الأول في فيينا، وفجأة وبدون سابق إنذار يرى شاباً يبدو نكرة مغروراً، يحترق كالنار ليبتكر موسيقى عظيمة. فيحتج لدى الرب قائلاً: «كيف تُعطي مهرجاً بذيئاً مثل موتسارت هذه الموهبة العبقرية، وتحرمني منها وتجعلني كالأخرس».
يمثل سالييري كل العاديين في الحياة، ويمثل موتسارت الموهبة، وصراعهما هو الصراع الذي سيستمر للأبد، لكني دون أن أدري أحببت واخترت سالييري وليس موتسارت، بدأت أتيقن من وجود رابط بين اختياراتي. نادال وبسام ورونالدو كلٌّ منهم سالييري مجاله.
تعرفت على رافا وهو يقف وجهاً لوجه أمام السويسري روجر فيدرر والصربي نوفاك جوكوفيتش، الثلاثي الذي حقق ما مجموعه 66 بطولة كبرى، لرافا منها 22.
دائماً ما اتُّهم رافا بأنه الأقل موهبة في الثلاثة، لكنه لم يلتفت إلى كل ذلك، يعرف مواطن قوته ويحاول استغلالها أيما استغلال، وتعزيزها كذلك. 14 لقباً على الأراضي الترابية في بطولة رولان غاروس من ضمن الـ 22، وهو الرقم القياسي، كفيل لإثبات ذلك ولإعطائنا درساً في الحياة، بأن الجهد المبذول في مكانه الصحيح بوعي قد يضعنا في الصف نفسه مع أعتى الناس موهبة، هكذا وجدت بسام صغيراً، ورونالدو ونادال في مراهقتي إبان فترة التعرف على الحياة.
لذا أدين لهم ولريال مدريد بكل شيء، وريال مدريد كان استكمالاً لاختياراتي في الحياة، وبالصدفة التقيت هناك نادال أيضاً.
على عكس بقية أبناء جيلي، وقعت في عشق ريال مدريد وليس برشلونة، بالرغم من فريقهم التاريخي رفقة جوارديولا.
ارتبط نادال بقصة عشق منذ الطفولة بنادي ريال مدريد، حيث كان من أهم مشجعيه ودائم الحضور في مبارياته الكبرى من المقصورة الرئيسية لملعبه التاريخي سانتياجو برنابيو.
الأمر لم يقف عند رياضي ناجح، عاشق لفريق لا يعرف سوى النجاح، بل تجاوز إلى ربط اسم الماتادور بكرسي رئاسة ريال مدريد في المستقبل القريب، خصوصاً أن رافا تجمعه علاقات قوية بمسئولي النادي ونجومه على مر العقدين الأخيرين.
اعتاد النجم الملقب بالأرمادا أن يكون مشجعاً حاضراً في المقصورة الرئيسية لملعب سانتياجو برنابيو، في كثير من مباريات الكلاسيكو، وكانت لقطة احتفاله بهدف بيلينجهام القاتل في الفوز على برشلونة (2-3)، والذي منح الملكي لقب الليجا تقريباً، هي الأشهر في احتفالية الملكي. وغيرها من اللقطات الكلاسيكية الشاهدة على عشقه للملكي، والشاهدة أيضاً على حبي له، والمدللة على مدى ارتباط اختياراتنا في الحياة بعضها ببعض.
أعطاني نادال دائماً أسباباً لأقع في حبه، ودلالة على ذوقي في الاختيار والتفضيل، وكذا أمل لاستمرار السعي، وهو السبب الأهم لدحض نظرية أمي عن اختياراتي المختلفة طيلة الوقت.